أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - طارق حجي - دانات منتخبات (مقالات قصيرة جدا) .















المزيد.....



دانات منتخبات (مقالات قصيرة جدا) .


طارق حجي
(Tarek Heggy)


الحوار المتمدن-العدد: 2955 - 2010 / 3 / 25 - 16:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



الدانة (1):
- المرشد الثامن للإخوان المسلمين (فى مصر) هو من تلاميذ وشركاء سيد قطب . لذلك قال ما قاله يوم 16يناير 2010 ... وكنت احلم بمرشد عام جديد يعلن ايمانه بالدولة المدنية وبأن الشعب المصري هو مصدر السيادة والتشريع وكل السلطات . كنت احلم برجل يقول عكس الآراء التى جاءت فى كتاب سيد قطب "علامات على الطريق" ، والتى استلهمها جل التكفيريين ... كنت احلم بمرشد عام جديد يعلن ان اقباط مصر ونساء مصر لهم كل الحقوق المكفولة دستوريا وقانونيا لأي ولكل مصري ... كنت احلم بمرشد عام جديد يدين فى بيانه الأول كل عمليات العنف والارهاب التى ارتكبت خلال العقود الماضية (ظلما وعدوانا) باسم الدين .... كنت احلم بمرشد عام جديد يعلن ايمانه العميق بالتعددية والغيرية وحقوق الانسان وبثقافة السلام والعيش المشترك الايجابي ، وبانسانية وعالمية الحضارة والتمدن والتقدم والعلم ... وكان من الممكن ان يعلن "بعض" هذه المباديء مرشد عام جديد من الاصلاحيين ... ولكن الإخوان المسلمين اختاروا مرشدا عاما يجيء لهذا الموقع (فى هذا الظرف المصري ، والعربي والدولي) من عباءة سيد قطب الذى بينما استنكر اعدام جمال عبدالناصر له (كل الاستنكار) الا انني اعتبره (هو وابا الأعلي المودودي) آباء العقلية التكفيرية.

الدانة (2):
- يوصف كثيرين فى المجتمعات الناطقة بالعربية بالمثقفين الكبار . وكاتب هذه السطور صاغ تعريفا لمن ينبغي ان يطلق عليه (بين المتحدثين بالعربية) بالمثقف الكبير ... ووفق هذا التعريف فانه يستحق ان يوصف بالمثقف الكبير بين الناطقين بالعربية من أحاط (احاطة متوازنة) بروائع الإبداع الإنساني فى شتي مجالات العلوم الاجتماعية والانسانيات منذ اقدم الازمنة المدونة وحتى اللحظة الراهنة . ويعني ذلك (عمليا) الاحاطة الواسعة بكلاسيكيات الابداع الاغريقية والرومانية واهم المؤلفات بالعربية وبالذات خلال القرون الثلاثة بدءا من القرن التاسع الميلادي ، وابداعات عصر النهضة ومرحلة ما قبل الثورة الفرنسية وكلاسيكيات الفلسفة والفكر السياسي والاجتماعي والادب فى اوروبا خلال القرون الخمسة الاخيرة ... وروائع الفكر المعاصر ، والعلوم الاجتماعية المستحدثة خلال القرن الاخير ، واهمها علم النفس وعلوم الموارد البشرية وعلوم الادارة الحديثة وعلوم الاتصالات . ونظرا لان هذه الثمار غير مترجمة للعربية (كما هى مترجمة لليابانية) ، فان اى عربي لا يقرأ بشكل اساس بلغة اوروبية رئيسة(وان كان طالع خمسين الف كتاب ، وحصل على اعلي الدرجات الاكاديمية) فانه لا يمكن ان يوصف بالمثقف العصري الكبير ... امام قاريء هذه الكلمات اما ان يرفض التعريف الذى صاغه كاتب هذه السطور ، وهذا حقه (ويقابله التزام بنحت تعريف بديل يطرحه للنقاش) ... واما ان يقبل هذا التعريف . فاذا قبل القاريء هذا التعريف ، اصبح من الواجب عليه ان "ينظر حوله" ، ويعرض كل من يعرف ، وكذا كل الشخصيات العامة على هذا التعريف ، ثم يسأل نفسه : " كم شخص من هؤلاء يمكن بهذا المعيار ان يوصف بانه مثقف عصري كبير ؟ " ... واذا لم يجد احداً ، فارجو الا ينزعج ! فهى نتيجة طبيعية فى مجتمعات مساهماتها "صفر" فى مسيرة العلوم الطبية والهندسية والفزيائية والكيمائية ومجالات الفضاء وعلوم الاتصالات والمواصلات والاليكترونيات .... بل انها قد تكون "الشيء المنطقي الوحيد " فى مجتمعاتنا!!!!

الدانة (3):
- ابن تيمية (الذى قرأت جل ما كتب ، وبالذات كتاباته الفقهيه وفتاويه ) هو حجر الأساس لبنيان قلعة التعصب وعدم المرونة وضيق الأفق والتشدد والإساءة للمرأة والإساءة لغير المسلمين فى التاريخ الإسلامي . وهو الأول فى سلسلة من أكبر حلقاتها محمد بن عبد الوهاب شريك السعوديين فى تأسيس الدولة السعودية الأولي فى 1744 ومحمد رشيد رضا (الرجل الذى أعتقد أنه كان الواسطة بين الحركة الوهابية وحسن البنا ، وهو فى اعتقادي الذى دفعه لتكوين جماعة الإخوان المسلمين فى مدينة الإسماعيلية فى 1928) ... وكذلك الهندي / الباكستاني المعروف بأبي الأعلي المودودي ، وسيد قطب . من النحية الفقهية ، فإن ابن تيمية فقيه هامشي صغير . فمن العبث مقارنته بابي حنيفة . وهو لا يعدو ان يكون (من زاوية علم اصول الفقه) مجرد أحد الفقهاء الحنابلة ، وحتى امامهم (احمد بن حنبل) فهو اضعف الفقهاء السنة الكبار وأقلهم اعمالا للعقل (القياس ، والإستحسان عند الأحناف ، والمصالح المرسلة عند المالكية) . وكلما تذكرت تعريف أبي حنيفة للإستحسان (الذى يعتبره الأحناف بمثابة مصدر للتشريع أو بلغة عصر أبي حنيفة "استخلاص الآحكام العملية من ادلتها الشرعية" ) كلما احنيت رأسي احتراما لهذا الفقيه الذى سوغ رفض تأسيس الأحكام على الأحاديث المسماة بأخبار الأحاد ... (وبناءا على ذلك يحق للمسلم رفض الحديث الذى هو حجر الأساس لحجاب المرأة). عرف أبو حنيفة الإستحسان بأنه (العدول عن قياس جلي لقياس خفي ، لعلة رجحت ) .... وهو منطق يرفع من قيمة العقل بشكل لا مثيل له عند أي فقيه سني آخر . أتذكر ابن تيمية كلما اشتكي مسلمون عقلاء من تراجع الاسلام المعتدل واستفحال الفهم الوهابي للإسلام ، وهو الفهم الذى افرز آلاف القتلة (باسم الدين) ، كما أنه الفهم الذى افرز طالبان والأفغان العرب والقاعدة وكل جماعات العنف التى شوهت سمعة الاسلام والمسلمين فى عالم اليوم ... و أخيراً ، فإنه حجر الأساس لما يعرفه السعوديون بالهيئة !

الدانة (4):
- جمعني لقاء بالقاهرة منذ شهور بالرجل الأول فى أكبر جهاز للإحصاء فى الشرق الأوسط . وجدته قارئاً ممتازاً ، وهو ما شجعني على الإتصال به فى اليوم التالي لأسأله : هل بوسع جهازكم أن يعطيني عدد المصريين الذين يحملون إسم "عبد الجبار" كإسم أول أو كاسم عائلي . فوجئت برده الفوري : " بعد أقل من ساعة سأتصل بك ومعي الإجابة عن سؤالك " ! بعد أقل من ساعة إتصل بي الرجل ليخبرني انه لا يوجد بين الملايين المصريين الثمانين شخص واحد اسمه الأول او اسمه العائلي "عبد الجبار" ... ثم أضاف : لدينا آلاف يحملون اسماء مثل عبداللطيف و عبدالستار وعبدالرحيم وعبدالغني ... ولكن ليس لدينا "عبدالجبار" واحد ! قلت (وأنا لا اشعر بسرعة ردي) : "الحمد لله انه لا يوجد بمصر كلها وبملايينها الثمانين أي "عبد الجبار" ... شجعتني رغبته فى الاجابة عن أي سؤال احصائي ان اساله : " هل لدينا اي مصري اسمه فاتك او ضاري وحش او حرب او مصعب او متعب او صدام او جهمان او جهم او نكد ؟ " طلب مني مهلة قصيرة ، عاد بعدها ليخبرني ان ملايين مصر الثمانين ليس بينهم من يحمل أي من هذه السماء باستثناء بعض المصريين الذين ولدوا فى العراق وسماهم والداهم بصدام ، كما ان هناك متعب واحد كاسم عائلي لاسرة نزحت من الجزيرة العربية منذ قرنين ! ... قلت لنفسي : يا الله ، الرسالة والمعني والمغزي اوضح من سماء صيف مصرية ... هل اكتفيت ؟ لا ... لم أكتف ، فقد عدت للرجل الكبير باسماء نسائية مثل شمة والعنود وعفراء وغيرها . فى اليوم التالي جاءني القول الفصل : " لاتوجد مصرية واحدة بأي من هذه الاسماء " ... مرة اخري هتفت : "شكرا يا مصر ويا علم الاجتماع " ... فالدلالة واضحة .

الدانة (5):
- الدكتور نصر حامد أبو زيد (باعتراف كبريات الجامعات العالمية و من ضمنها جامعة أوتريخت الهولندية العريقة التي هو أستاذ بها) هو واحد من أكبر الأكاديميين المتخصصين في الدراسات الإسلامية في عالمنا اليوم. و من حق كل إنسان أن يقبل بنظرياته أو أن يرفضها جملةً و تفصيلاً ، أو أن يكون بين بين، أي يقبل و يرفض. و لكن أن يصل الدكتور نصر حامد أبو زيد إلى الكويت يوم 15 ديسمبر 2009 وتقوم الساطات الكويتية ممثلة في أمن الدولة بمنعه من دخول الكويت و ترحيله إلى القاهرة إنما هو أمر بالغ الدلالات السلبية. السلطات الكويتية بدلاً من منحه تأشيرة دخول الكويت كان يمكن أن ترفض منحه التأشيرة (رغم كونه عملاً شائناً). و لكن عوضاً عن ذلك عاملته السلطات الكويتية أسوأ المعاملة حين ألغت عشر ساعات من حياته. لقد انتهى عهد المنع السياسي و المصادرات إلا المنع بالقانون و القضاء. إن ما فعلته السلطات الكويتية هو قرار يهين و يدين و يشين من أصدروه ومن حضوا عليه. ولا يملك المرء إلا أن يتساءل : ما هو ذلك الشىء الذي تخاف عليه الساطات الكويتية و تظن أن محاضرة واحدة للدكتور نصر حامد أبو زيد سوف تهدمه و تحطمه؟ هل الخصوصيات الثقافية التي يظن التصرف المعيب للسلطات الكويتية أنه يحميها هي خصائص ضعيفة و واهنة و بلا جذور لدرجة أن محاضرة واحدة من الدكتور نصر حامد أبو زيد سوف تقضي عليها و تمحوها؟ لقد شعر مثقفون كويتيون كثيرون بالعار من هذا التصرف و هم محقون. و قد قام هؤلاء المثقفون الكويتيون بعمل ما يلزم من ترتيبات مكنت الدكتور نصر حامد أبو زيد من إلقاء محاضرته القيمة عبر التليفون للجمهور الذي كان من المفروض أن يحضر المحاضرة و بالفعل قام الدكتور نصر بإلقاء محاضرته و لم يكن للتصرف الكويتي الرسمي الممجوج من أثر إلا الشعور المهين الذي حاولوا أن يلحقوه بالدكتور نصر فحاق بهم هم. إن كل من يعرف الشأن الكويتي يعلم لماذا قامت الساطات بهذا السلوك المعيب. و أعني مغازلة التيار الأصولي في مجلس الأمة و هو تيار يصر على تدمير الدولة المدنية في الكويت و الرجوع بها للظلام الدامس للقرون الوسطى.

الدانة (6):
- ليس من مبادىء إقتصاد السوق أن يتولى التجار و رجال الأعمال أعلى المناصب التنفيذية أي مناصب الوزراء. بل إن ذلك هو تدمير لكثير من مبادىء إقتصاد السوق و علوم الإدارة الحديثة و قواعد الشفافية و مبادىء عدم تعارض المصالح . فبينما ينبغي على المجتمع إتاحة أفضل الفرص الإستثمارية و شروط العمل و بيئة العمل أمام رجال الأعمال ليساهموا في تحقيق الوفرة الإقتصادية الحتمية للسلام الإجتماعي ، فإن على المجتمع أن يعهد بالمسؤلية التنفيذية لكادر بشري آخر يكون الرقيب على طبقة رجال الأعمال و الساهر على عدم إختلاط المصالح و التيقن من سلامة السياسات و الإجراءات و شفافيتهما. و من المعروف لكل خبير في علوم الإدارة الحديثة أن أعظم رجال الأعمال لا يمكن أن يكون مؤهلاً للمنصب الوزاري، إذ أن كل مؤهلاته تتعلق بالربحية ليس إلا. و إذا كانت الربحية هي يضاً من أهداف الوزراء، إلا إنها ليست إلا مجرد هدف واحد من أهداف عديدة تتعلق بسلامة المجتمع سياسياً و اقتصادياً و اجتماعياً و من نافلة القول أن أكرر أن ظروف حياة أي رجل أعمال في الكون تجعل الإحتمال الأكبر (و بدون تعميم) أن يتضائل عنده الشعور بالطبقات الأدنى في المجتمع و معاناتها و مشكلاتها. و لا ينقض ذلك القول وجود رجل مثل بيل جيتس، فليس كل و لا نصف و لا ربع و لا عشر رجال الأعمال في العالم كله مثل بيل جيتس. لقد سمعت بأذني من عشرات الوزراء الذين أتوا من عالم رجال الأعمال ذات الكلمات : "إن المصريين كسالى و لا يحبون العمل و يعرفون الحقوق و لا يعرفون الواجبات". و الذي لا يعرفه هؤلاء أنه حتى (بالفرض الجدلي) لو كان ما يقولونه صحيحاً، فإن الحكومات المتعاقبة هي المسؤلة عن وصول الناس لتلك الحالة السلبية. و أضيف أن معظم رجال الأعمال في مجتمعنا يرون أن من الواجب إلغاء الدعم و مجانبة التعليم و ضرورة أن يسدد الناس الثمن الحقيقي لكل السلع و الخدمات. و هي مقولة قد تكون صحيحة بشكل نظري. و لكن في واقعنا المصري هي مقولة تعبر عن إجرام و توحش المؤمن بها. فالمصريون خضعوا لعقد إجتماعي في الستينيات لا يمكن تفكيكه على حسابهم. و في إعتقادي أن تفكيك هذا العقد الإجتماعي الستينياتي يجب أن يبدأ بتوفير ملايين فرص العمل لأبناء و بنات مصر و بمرتبات تناسب مستويات الأسعار قبل أن نبدأ في الحديث عن تسديد مصاريف التعليم و تعديل قوانين الإيجارات و إلغاء للدعم. و لما كانت حكومات مصر (ومنها الحكومة الحالية المحتشدة بالتجار) قد فشلت فشلاً ذريعاً (بسبب البيروقراطية و الفساد و مركزية القرار وضعف التكوين المعرفي والثقافي والإداري لكثير من الوزراء المصريين) في جلب استثمارات عالمية بالحد الأدنى المطلوب (ما لا يقل عن 25 مليار دولار أمريكي سنوياً) فإن عليها أن تغلق فمها و تسكت هي و وزراءها الأثرياء عن الحديث عن إلغاء الدعم و الأسعار الحقيقية للسلع و الخدمات.

الدانة (7):
- من أكثر ما يضحكني أن أسمع من يردد أن الثقافة العربية و الإسلامية أنصفت بل و أكرمت المرأة. فالثقافة العربية الإسلامية توقفت في نظرها المرأة تاريخياً عند القرن السابع و جغرافياً عند الصحراء العربية التي تشيع فيها سوسيولوجيا البدو الرحل. مجتمعاتنا لا تزال بعيدة عن أن تغرس في عقول و ضمائر و نفوس أبنائها و نسائها أن المرأة هي (على الأقل) مساوية للرجل. إن مليون رجل عادي لا يعادلون إمرأة متميزة مثل مدام كورى ، أول إنسان حصل على جائزة نوبل في العلوم لأكثر من مرة. إن الدراسات العلمية المعاصرة تتحدث عن الكثير من الفوارق البيولوجية، و كلها فوارق لصالح المرأة. طالعت منذ أيام دراسة طبية أصدرتها واحدة من أهم المعاهد الطبية فى العالم عن معدلات التخلف العقلي بين الرجال و النساء و هي معدلات تبلغ عند الرجل ضعفها عند المرأة. لقد كنت و لا أزال أحلم ببرامج تعليم تقول لأبناء و بنات المجتمع أن المرأة هي نصف المجتمع من الناحية العددية فقط أما من ناحية القيمة فهي أكثر بكثير، إذ أنها أم النصف الآخر. و من أكثر ما يثير غضبي أن يؤمن إنسان بارتفاع مكانة الرجل عن المرأة رغم ما يعنيه ذلك القول (السخيف) في حق أمه و زوجته و أخته و إبنته.

الدانة (8):
- فاضل إيه تاني ؟ (أي : ماذا تبقى ؟) تفوه بها صديق تعليقا على فتوي لرجل دين السعودي بحرمة البوفيه المفتوح (!!!!) ... ثم نظر هذا الصديق صوبي وسألني مرة أخرى : "ماذا تبقي ؟" وكان جوابي كالتالي : تبقي أن علي كل عاقل أن يرفض أن يكون هؤلاء البسطاء انصاف المتعلمين واصحاب المحصول المعرفي والثقافي المتواضع بمثابة مرجعية بالنسبة لأي أحدٍ . العيب ليس عيب هؤلاء الذين نصبوا انفسهم دعاة ومراجعا (فهم ثمرة ظروف اجتماعية واقتصادية وتعليمية وثقافية جد متواضعة) ، وإنما عيب النظام السياسي والمجتمعي والثقافي والتعليمي الذى يجعل منهم مرجعية . بإختصار مالم تكن مرجعيتنا الوحيدة هى العلم (العلم فقط) فسوف نصبح قريبا محمية أنثروبولوجية يحيطها العالم المتحضر بسور ويقوم بدراستها ككائنات أحفورية (حفريات) ... حقيقي أن الجرثومة جائتنا من ترابستان ، ولكن مسئوليتنا لا تنكر ، فمعظم الناس من حولنا تآكلت عقولهم وصاروا مضحكة العالم المتمدن. و بدون توفر إرادة سياسية لوقف هذا الطوفان من مضادة العلم والتقدم وسلطان العقل، فإننا سور نصبح بؤراً معزولة سيحيطها العالم المتمدن بالأسوار كمراكز الحجر الصحي ويعتبرها محميات أنثروبولوجية ويرسل علماءه لدراسة شعوبها الأحفورية ، وبالذات تلك الكائنات البدائية (atavistic) التى تنظر لهم شعوب منطقتنا كمراجع و قادة رأي فى محميتاهم الأنثروبولوجية.

الدانة (9):
- لاشك أن الثقافة العربية - الإسلامية القرون - أوسطية المضادة للعقل والتمدن والتقدم والأنسنة الممولة بالبترو- دولار قد تفشت فى معظم المجتمعات العربية والإسلامية ، وقد تهيئت لها البيئات بفعل الإستبداد والقيادات المترعة فى الجهل والفساد وفى ظل مؤسسات دينية وتعليمية غارقة فى الجهل والماضوية والثيوقراطية ... ولاشك أن سياسة القوي العظمي الوحيدة القائمة على التحالف مع ترابستان (ركن الأساس فى نشر ورعاية وذيوع الإسلام السياسي ) لاشك أن كل تلك الحقائق جعلت من يفهمون ما حدث وما هو حادث ، وهم قلة وسط سواد أعظم من الغوغائية القرون-أوسطية والذين علي كل موضوعي أن يتسامي عن لومهم ، فما هم إلا ثمرة حقائق تاريخية وسياسية وإقتصادية وإجتماعية وثقافية ما كان لها إلا أن نتنتج هذه الثمرة المسممة ... إنني أكتب هذه الكلمات وأنا محاط بأمواج وأنواء وعواصف الإحباط ، لا سيما وأن أقرب الناس لي لا علاقة لهم بهمي أو مهمتي ، ناهيك عن وحدة فكرية ضارية ... ولكنني مصر على أن أقاوم وأحضك على المقاومة ... (من رسالة لصديق) ...

الدانة (10):
- أتعجب ممن لا يرى الصلة بين نظام التعليم في دولة من الدول الإسلامية و بين إفراز المجتمع لأمثال سكان كهوف وزيرستان من قادة القاعدة. الرحلة تبدأ من التعليم بمعناه الواسع أي الذي تقدمه المؤسسة التعليمية و المؤسسة الدينية و ينتهي بتفجيرات اندونيسيا و بومباي و لندن و مدريد و نيو يورك و غيرها. هذه "الحالة" هي حالة ثقافية سائدة إما توجد أو لا توجد لكنها لا يمكن تهذيبها أو تأديبها أو أقلمة أظافرها. يسألني كثيرون: هل مساهمة السعودية في إنتاج الإسلام المحارب أكبر من مساهمة مصر؟ و الحقيقة انهما ليسا مجرد شريكين بل انهما (في هذا الصدد) "كيان واحد".و سأشرح قليلاً: كان محمد رشيد رضا، تلميذ محمد عبده الذي لم يرث عن استاذه انفتاحه و اعتداله و جرأته على ما يعتبره البعض من مسلمات الفقه الإسلامي. منذ وفاة محمد عبده سنة 1905 أخذ تفكير محمد رشيد رضا يتخذ إتجاها مغرقاً في السلفية و ما أن تمكن عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود في سنة 1925 من صيرورته ملكاً للحجاز و سلطاناً لنجد على أسنة رماح و حراب و سيوف "الإخوان" (اخوان نجد) حتى كان محمد رشيد رضا هو أقرب المشتغلين بالدراسات الإسلامية مما حدث في الجزيرة العربية أي وصول الوهابية إلى سدة الحكم في بلد ليس هو فقط أكبر البلدان العربية شرق البحر الأحمر و إنما أيضاً مقر أقدس مقدسات المسلمين. أما الرجل (محمد رشيد رضا) و الذي كان على أوثق الصلات بعبد العزيز بن سعود و بالمؤسسة الوهابية كان هو الأستاذ الأكبر لمدرس اللغة العربية الشاب حسن البنا. و كان هو الذي حضه على تأسيس الإخوان المسلمين في مصر كجمعية دعوية و بمباركة من ممثلي الإحتلال البريطاني و شركائهم الفرنسيين الذين كانوا مديري قناة السويس و بمباركة الملك فؤاد الذي كان يحلم مع الإنجليز بوجود ند قوي للوفد بزعامة سعد زغلول الذي كان قد مات للتو (23 أغسطس 1927). وهكذا فإن الحديث عن: من المسئول بدرجة أكبر عن ظاهرة الإسلام المحارب هو حديث عبثي. فنحن أمام كيان واحد و لسنا أمام كيانين. ثم جاءت السنون بما دعم الإرتباط العضوي بين المؤسسة الدينية الوهابية و حركة الإخوان المسلمين في مصر. فعندما وجه جمال عبد الناصر الضربتين القويتين للإخوان (1954 و 1965) كانت المؤسسات الوهابية لزعماء الإخوان و للآلاف من أتباعهم هي الملاذ. و أخيراً فإن القىء الجيولوجي (البترول) جعل بمكنة بلد واحد أن يحول الحلف الوهابي الإخواني من حركة سعودية مصرية لحركة كونية تؤسس مراكز بث أفكارها من أستراليا إلى كاليفورنيا مروراً بكل القارات و سائر البلدان.وكل ما "قلتُه" هنا لا يجدي معه التعامل الأمني ... وبتحديد أكثر ‘ فبإستثناء الذين يقترفون ما يعتبر وفق قوانين العقوبات (او القوانين الجنائية او الجزائية) جرائما ‘ فإن التعامل مع غيرهم (اي غير مقترفي الجرائم) بغير الأساليب الثقافية وتطوير وتحديث النظم التعليمية لن يكون مجديا - فالمعضلة فكرية وثفافية وتعليمية و اجتماعية و اقتصادية فى جوهرها وفى كافة تجلياتها ...

الدانة (11):
- كانت الساحات الأدبية والثقافية والقانونية والسياسية والعلمية والطبية والفنية (بكل مجالاتها) فى مصر عشرينيات القرن الماضي حافلة بأعلام يفوقون (كما وكيفا) فى تميزهم ونبوغهم مجمل أعلام كل هذه الساحات والمجالات فى البلدان الناطقة بالعربية ليس إبان ذات الفترة فحسب وإنما خلال القرون العشرة الأخيرة برمتها. وليس ذلك بمستغرب . فالنبوغ الفردي لا يتألق بشكل وافر بدون نبوغ المكان. وليس من مكان فى المنطقة الناطقة بالعربية يضاهي مصر فى نبوغ وعبقرية مكانها وتاريخها وجغرافيتها . يقول بونابرت " مصر ليست بلدا ؛ وإنما هى البلد". وقبل بونابرت فإن أفلاطون هو من قال "كل ما أنتجناه فى اليونان كانت أصوله من مصر". لذلك فإن مصر (وحدها) كانت القادرة على إعمار تلك الساحات بذلك العدد الهائل من النوابغ ؛ سواءا كانوا مصريين أو غير مصريين جاؤا إليها لتعتمد هى نبوغهم ؛ فبدون هذا الإعتماد ما كانوا إلا "مسودات نبوغ". وإذا كان الكثيرون من نجوم وأعلام تلك الحقبة قد نالوا من التقدير والتقديم للأجيال اللاحقة ما يستحقونه مثل أحمد شوقي ولطفي السيد وطه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وأم كلثوم ويوسف وهبي ومحمود مختار وزكي نجيب محمود ويوسف إدريس ... وغيرهم كثر؛ فإن البعض لم ينل حقه من التقدير والتقديم للأجيال التالية ؛ ومن أهم هؤلاء سلامة موسي وزكي مبارك ومنصور فهمي ... وغيرهم. وفى هذه الدانة سأتناول أحد هؤلاء الأعلام الذين كانوا (وينبغي أن يبقوا) نجوما ساطعة تحتاجها اليوم سماء حياتنا العقلية حالكة الظلام ؛ عسي أن يساعد نورها أبناء وبنات مجتمعاتنا على الرؤية فى ظلام واقعنا الدامس والخروج من عتمة حياتنا العقلية التى إستولي على قمرة قيادة الرأي والفكر والمعرفة فيها أشباه أميين. وإذا كان أكبر النقاد العرب المعاصرين الأستاذ رجاء النقاش قد شبه كاتب هذه السطور ومهمته الفكرية بسلامة موسي (راجع المقال المطول للأستاذ رجاء النقاش عن كاتب هذه السطور بعنوان "ناقد العقل العربي" المنشور بجريدة الأهرام القاهرية يوم 28 مايو 2000 ). ولد سلامة موسي سنة 1887 بمحافظة الشرقية بدلتا نيل مصر لأسرة قبطية. بعد حصوله على البكالوريا أو الثانوية سافر (سنة 1906) لأوروبا حيث أمضي سبع سنوات نصفها الأول فى فرنسا ونصفها الثاني فى بريطانيا. أثناء إقامته فى بريطانيا درس القانون كما إنضم للجمعية الفابية وهى جمعية إشتراكية إصلاحية سميت على إسم فابيوس الروماني ؛ وكان نجم الفابيين وقتئذ الأديب الأيرلندي الأشهر جورج برنارد شو. كما تأثر سلامة موسي بكتابات ونظريات تشارلز داروين . بعد عودته لمصر ؛ صار سلامة موسي عراب الإشتراكية الإصلاحية (أي غير الثورية) كما صار عراب الدعوة للعلم واللحاق بالحضارة الغربية والإنتقاد الكلي للحضارات الشرقية. فى 1914 إشترك مع شبلي شميل فى تأسيس صحيفة أسبوعية سمياها "المستقبل" ؛ لم تعمر طويلا. وفى 1921 ساهم مع المؤرخ المصري المعروف محمد عبدالله عنان (مترجم أطروحة طه حسين للدكتوراة الثانية من السوربون عن الفلسفة الإجتماعية عند إبن خلدون) فى تأسيس "الحزب الإشتراكي المصري". تولي رئاسة تحرير واحدة من أهم المجلات الثقافية بالعربية "الهلال" من 1923 وحتى 1929 (صدرت الهلال سنة 1892 ولا تزال تصدر للآن). فى 1930 أسس مجلته الشهيرة "المجلة الجديدة" التى نشر فيها لسنوات خلاصة أفكاره المناصرة للعلم والحضارة الغربية مع نزعة إشتراكية إصلاحية (متسقة مع توجهه الفابي). كذلك كان سلامة موسي من رواد تيار "فرعونية مصر" مع نظرة لم تتخل عن إستهجان الثقافة العربية والأدب العربي. كان الناقد المصري (الماركسي) الشهير غالي شكري من أبرز المنافحين عن سلامة موسي وقيمة رسالته الفكرية. يقول غالي شكري : " كان سلامة موسي يري أن تحرير الطبقات المطحونة من عبودية الوهم والخرافة سوف يؤدي إلي تحرير تلك الفئات من سائر أشكال العبودية". وكان المحافظون (وعلى رأسهم مصطفي صادق الرافعي الذى سبق وأن خصص كتابا بأكمله للهجوم على أفكار طه حسين بخصوص نحل الشعر الجاهلي) يمقتون سلامة موسي ويكيلون له التهم والهجوم المنبثقين عن تعصب ديني أعمي. كان أول كتبه (سنة 1910) بعنوان "مقدمة السوبرمان" ومن أهم مؤلفاته "الإشتراكية" سنة 1913 و "نظرية التطور وأصل الإنسان" سنة 1928 و "غاندي والحركة الهندية" سنة 1934 و "النهضة الأوروبية" سنة 1935 و "مصر أصل الحضارة" سنة 1947 و "المرأة ليست لعبة الرجل" 1956 كما ترجم لحياته فى كتابه "تربية سلامة موسي" سنة1947. ويمكن لقاريء مؤلفات سلامة موسي اليوم أن يدرك أسباب تجاهل الكثيرين له وأهمها التعصب الديني وعدم القدرة على الحوار العلمي الهاديء مع أفكاره الصادمة للمحافظين مثل إيمانه الراسخ بالتفوق الكاسح للحضارة الغربية وإيمانه بنظرية داروين فى تطور الكائنات وعدم تقديره للآداب العربية بل ولإعتقاده بأن اللغة العربية شريك رئيس فى تخلف الثقافة العربية. وإذا كان المناخ الثقافي المصري لم يحتمل برحابة أفكار سلامة موسي خلال سنوات نشره لمؤلفاته (1910 - 1958) فمن السهل أن يجزم المرء اليوم أن مناخاتنا الثقافية الحالية ستكون أشد رفضا لهذا الصوت الجريء الذى قال للمصريين منذ قرابة القرن "أنتم مصريون أولا وأخيرا ؛ وعليكم أن تولوا وجوهكم شطر أوروبا ثقافيا ومعرفيا وأن تؤمنوا بالعلم وإنجازاته وأن تخلصوا عقولكم من الوهم والخرافة وأن تعلموا أن الآداب العربية شبه خالية من الثمار الحضارية التى ستجدونها بوفرة فى آداب الحضارة الغربية من زمن هوميروس ويوريبيدوس وإسخيلوس وأرستوفانيس وفيرجيل لزمن تشالز ديكينز توماس هاردي وأوسكار وايلد وفيكتور هوغو وأناتول فرانس وإميل زولا وإبسن وألبير كامو وسارتر وغيرهم من الثمار اليانعة للحضارة الحية الوحيدة اليوم على سطح الأرض.

الدانة (12):
- فرغت أمس من مطالعة دراسة مقال مطول بقلم أشهر باحث غربي في الإسلام وهو البروفسور البريطاني الأمريكي الأشهر بيرنارد لويس عن خرافة أن العرب هم الذين قاموا بحرق مكتبة الإسكندرية القديمة . بحثُ رائع كتبه عَلامة يمثل أعلى المستويات الأكاديمية العالمية يؤكد فيه أن العرب لم تكن لهم أية علاقة بالنهاية المأساوية لمكتبة الإسكندرية القديمة. هذا البحث الفذ (رغم صغرِ حجمه) كتب له الدكتور إسماعيل سراج الدين مقدمة متميزة وجدير بالذكر أن جحافل المُثقفين العرب من قبيلة بني حنجرة إستسهلوا وإستمرأوا الهجوم على البروفسور بيرنارد لويـس ، (رغم أنهم لا يملكون مؤهلات التلمذة على يديه) . وهذا الإستسهال والإستمراء ليست له علة إلا أن البرفيسور لويس يهودي الديانة (وهو جُرم لا يُغتَفَر عند كثيرين من أبناء منطقة الشرخ الأوسط) . اليوم فإنني لا أشك أن جحافل بني حنجرة سيلتزمون صمت الجمادات أمام ورقته العبقرية عن إكذوبة حرق العرب لمكتبة الإسكندرية. والبروفسور بيرنارد لويس هو صاحب أفضل دراسة علمية – في تاريخ الدراسات الإسلامية عن الطائفة الإسماعيلية . كذلك فهو العَلامة الذي قال أكثر من مرة أن العرب قابلون للدمقرطة مثلهم مثل غيرهم ، وأن العيب ليس فيهم وإنما في بعض رقائق تاريخهم ونوعية الحكم بمجتمعاتهم . اليوم لا شك عندي أن مُثقفي بني حنجرة سوف يتجاهلون ما كتبه البروفسور لويس عن التهمة التي ألصقها كثيرون بالعرب أي كونهم الذين دمروا مكتبة الإسكندرية القديمة . فأنى لمثقفي بني حنجرة أن يحكموا على برنارد لويس بعقولهم وهم الذين إعتادوا أن يحكموا بغرائزهم السياسية ونوازعهم القبليـة ؟



الدانة (13):
- وصلت الثقافةُ العربية (وبالتالي الذهنية العربية المعاصرة) لدركٍ أسفل من الغرائزية وإنعدام الموضوعية في تناولِ معظم وسائل الإعلام العربية لقيامِ إيطاليا بتجريم الهجرة غير الشرعية لها . فوفق آرائنا الغرائزية , فليس من حق إيطاليا أن تُجرّم الهجرةَ غير الشرعية لها لأن هؤلاء الذين يذهبون لها (بطرق غير شرعية) هم إما عرب أو مسلمون أو أفارقة !!! إن تناول وسائل الإعلام العربية لهذا الموضوع وتأثيمها لإيطاليا لأنها أصبحت تعتبر المهاجرين غير الشرعيين محض مُجرمين ، هو دليلُ ساطعٌ على ما آلت إليه الثقافة العربية المعاصرة من الشخصنة وإنعدام الموضوعية بل – وأكرر – الغرائزية البدائية (atavistic) . إن من حق إيطاليا (منطقاً وعقلاً وقانوناً) أن تُجرم الهجرة غير الشرعيةِ لها وأن تتعامل مع المهاجرين غير الشرعيين كمجرمين ، وأن تُنزل بهم العقاب الذي يحدده القانون الإيطالي لهذه الهجرة غير الشرعية والتي أصبحت اليوم في إيطاليا "جريمةً" .

الدانة (14):
- في مُقابل رموز التعصُب والإنغلاق والهجرة العمياء للماضي والتي كان أبرزها في جيله الأديب المصري مصطفى صادق الرافعي ، كان هُناك آخرون من رموز الإنتصار للعِلم والتقدُم والحضارة والمدنية مثل أحمد لطفي السيد وعبد العزيز فهمي وسلامة موسى ومنصور فهمي ومن الجيل التالي لهم الدكتور حسين فوزي . اليوم يشيعُ بين عددٍ غير قليل من حَمَلة الأقلام في واقعنا نموذج مصطفى صادق الرافعي ولا نكادُ نجد مُمَثِلاً للمدرسةِ الأُخرى . بقى أن يعرف القُراء أن مصطفى صادق الرافعي عاش ومات بدون أن يكون بوسعه قراءة فقرة واحدة بأية لغة غير عربية . أما أمثال أحمد لطفي السيد وعبد العزيز فهمي وسلامة موسى ومنصور فهمي فقد أحاطوا بكلاسيكيات الإبداع الإنساني في أصولها وبلُغاتها.

الدانة (15):
- أُكررُ في هذه "الدانة" ما كتبته في أول فصول كتابي "ما العمل" الذي صدر في سنة 1986 وهو أن الشارع المصري اليوم يُجَسِد ويُمَثِل ويُشَخِص مُعظَم ملامح حالتنا المُجتمعية الراهنة من إنعدامِ معنى القانون وعدم إلتزام الأقوى بالذات بأحكامه وسيادة مبدأ أن القوى تُنشيء الحق وتحميه وذيوع القيمة العالية المؤَسَسة إما عن السُلطةِ أو المال وقبل كل ذلك خرق القانون من قِبَل المنوط بهم إحترامة ناهيك عن ترجماتٍ شتى لثقافة الفهلوة التي يكون فيها كل مواطن هو السُلطة التشريعية والسُلطة التنفيذية وأحياناً السُلطة القضائية أيضاً في ذات الوقت .

الدانة (16):
- رغم وجودَ ألف دليل على فوائد بل وحتمية الفصل بين رجال الدين والعمل السياسي (لخطورة ذلك المروعة وعواقبه المدمرة) فقد تعلمتُ منذُ أيام أن هناك دليلاً آخراً لم أكن على دراية واضحة به ، ففي أثناء مُطالعتي لعدة بحوث أكاديمية عن المُرشد الأعلى الحالي للجمهورية الإسلامية في إيران تعلمت أن جُزءاً كبيراً من هيبتهِ وسُلطتهِ وسطوتهِ أن غير قليلٍ من مُساعديه (ومنهم رئيس الجمهورية الحالي) يؤمنون بأنه يتلقى تعليمات بشكل مباشر من الإمام المهدي الغائب أي من الإمام الإثنى عشر في سلسلة الإمامية الإثنى عشرة ذات القداسة الكُبرى عند الشيعة وهو الإمام محمد بن الحسن العسكري الذي إختفى ويعتقد الشيعة الإمامية أنه لم يَمُت وأنه سيعود بل ويدعون في صلواتهم ويسألون الله أن يُعَجِل عودته . ومن الطريف أن نُقارن بين فكرة آخر الزمان عند عدةِ فِرَقٍ مسيحية تربطُ آخرِ مرحلةٍ في الزمان بإسرائيل وعودة المسيح ومعركة أرماجيدون التي تستقي جذورها من سفر رؤية يوحنا اللاهوتي وبين ما يُقابلها عند الشيعة الإمامية . والتماثُل في الأفكار والأساطير غير محصور في هذا المثال . فالجدل المُحتدم قبل مجمع نيقيا (325 م) حول ما إذا كان الإبن مخلوق من الآب أم لا (وقد قال بأن الإبن مخلوق عددٌ من رجال الدين المسيحي في ذلك الزمان آريوس) بينما قال معارضوه أن الإبن غير مخلوق – وقد طالعتُ منذُ سنواتٍ بعيدة الجدل المُحتدم بين المُعتزلة والآخرين (أهمهم الحنابلة) حول القُرآن وهل هو مخلوق أم غير مخلوق وأنا في ذهول من إنتقال مفاهيم بأكملها من دينٍ لآخر . ولعل أيضاً من أشهر الأمثلة الكثير من النُظُم الصوفية/الإسلامية المأخوذة بالكامل عن رُهبان المسيحية (الخلوة أربعون يوماً ... عدم تناول طعام فيه روح ... ذكر أسماء لله بالآرامية أو العبرية أو السيريانية .

الدانة (17):
- رأيت الأب جورج قنواتي ( 1905-1994) مرة واحدة فى حياتي ... ذهبت إليه فى الدير الدومينيكاني بالقاهرة وأنا طالب بقسم الماجيستير فى القانون بجامعة عين شمس (1971)... كان حديثه يومها عن الفيلسوف فى أعمال نجيب محفوظ (الرواية والقصة القصيرة ) ... يومها : صال الأب قنواتي وجال فى حديثه المعمق عن فن الرواية فى الآداب العالمية وفى الأدب العربي المعاصر ... ثم طوف بنا فى عالم محفوظ من عبث الأقدار لبداية ونهاية لثلاثية بين القصرين ثم أولاد حارتنا واللص والكلاب ... ثم أطال الحديث عن رواية الشحاذ وعن المجموعات القصصية التى نُشِرَت فى أواخر الستينيات وبالذات "تحت المظلة" ... وفى نفس الجلسة تحدث بإستفاضة عن الفيلسوف الفرنسي جابرييل مارسيل وعن الفيلسوف الوجودي الألماني مارتن هايدجر ... ثم عرج على فيلسوف الشباب الأمريكيين - وقتها - هربرت ماركوز مؤلف "الإنسان ذى البعد الواحد"... فى آخر هذا اللقاء أعطانا الأب قنواتي بعض كتاباته عن إبن رشد ( الذى هو فى إعتقادي : أفضل عقل فى تاريخ المسلمين) ... وكانت تلك بداية غرام فكري وثقافي بإبن رشد العظيم . تذكرت كل ذلك منذ أيام وأنا أطالع مقالا عن الأب قنواتي ورد فيه أن أبرز المفكرين المصريين معرفة - شخصية وفكرية - بالأب قنواتي هو استاذ الفلسفة المرموق الدكتور عاطف العراقي ... فعسي أن يتحف الدكتور العراقي المناخ الثقافي فى مصر والمنطقة العربية بسلسلة مقالات عن هذا المحيط الفكري والثقافي والمعرفي والفلسفي العارم الأب جورج قنواتي ... وعسي أن تجذب هذه الكتابة الراقية عقول وضمائر أبناء وبنات مجتمعاتنا عوضاَ عن إستئثار التفاهة والسطحية والهزال الثقافي الذى يروج له - ليل نهار - مسوخ من الناحية المعرفية ... مسوخ وراءهم تمويل مفسد لا مثيل له فى تاريخ البشرية .

الدانة (18):
- رغم إحترامي وتقديري الكبيرين لرموزٍ عظيمة من رموز النهضة الفكرية والأدبية في مصر مثل طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ؛ إلا أن جيلهم كان يضم نجوماً أخرى لم تحظ بالشهرة والشيوع والتقدير اللائقين لفقرٍ شديد في جانب المُتلقي . فعمالقة مثل أحمد لطفي السيد وسلامة موسى ومنصور فهمي ولويس عوض هم أفذاذ من طبقة برتراند راسل في بريطانيا ... ولكن المُتلقي هنا لا يستطيع التلقي على موجة الإرسال والبث التي تأتي عليها تجليات هؤلاء الأفذاذ. فلطفي السيد الذى لا يعرف للمصري هوية إلا أنه مصري . ولطفي السيد الذى يُترجم للمصريين روائعا من أعمالِ أرسطو ... وسلامة موسى (مثله مثل حسين فوزي) الذى يُقدر الحضارة الغربية التقدير الذي تستحقه بصفتها الحضارة الوحيدة الحية اليوم على سطح الأرض اليوم ؛ فهؤلاء يصعب على المتلقي العربي المعاصر إستيعابهم . أما منصور فهمي فأكبر وأكثر من إحتمال (حتى بالمقارنة بسلامة موسي وأحمد لطفي السيد ) المُتلقي الذي هو في أعلى حالاته وفي شخوصِ من يُسَمون بكبار مثقفيه ، محض تلميذ صغير في عوالم المعرفة الإنسانية الرحبة . وينطبق نفس القول على لويس عوض الذي كان بقامة طه حسين ، ومع ذلك فإن مُقدريه وعارفي قدره أقل بكثير مما كان ينبغي أن تكون عليه الحال . ويمكن قول نفس الشئ على شخصياتٍ أخرى مثل محمود عزمي (فارس معركة الطربوش والقبعة منذ ثمانين سنة في مواجهة رمز من أكبر رموز التقوقع والهجرة للماضي وكراهة الحضارة الغربية وهو مصطفى صادق الرافعي) . أما حسين فوزي , فلا يوجد بين المثقفين المصريين والعرب المعاصرين من يعرف عنه أي شئ ؛ بإستثناءات معدودة . لماذا كانت ولا تزال تلك الظاهرة مُتفشية ؟ الجواب ببساطة: لأن المُتلقي ليس فقط مُعتل الصحة الثقافية وواهن الكيان المعرفي ولكن لأنه أيضاً ضحية ذهنية ثيوقراطية إقصائية تضع مُسميات على هؤلاء الأفذاذ , وهي مُسميات كفيلة بالإنصراف عنهم في بيئةٍ ثقافية أحفورية (من الحفريات) .

الدانة (19):
- ما الذي دهى حِصن الإسلام السُني الأكبر أي الأزهر ؟ . لماذا تقبل مؤسسة بهذه العراقة بالتبعية الفكرية لمؤسسة دينية أُخرى خاضعة بالكلية لأضعف تيارات الفقه الإسلامي وأكثرها نصية وعبادة للنقل وعداءاً للعقل (تيار أحمد بن حنبل وإبن تيمية وإبن قيم الجوزية) ؟ لماذا لا يتصدى الأزهر لأفكارٍ هى بالتأكيد مفارخ التعصُب والتزمت والعُنف والإرهاب والدعوة الحاضة على الصدام مع الإنسانية مثل أفكار الولاء والبراء التي كان لها المُساهمة الكبرى في إنتاج دولة طالبان والأفغان العرب وأتباعهما من الجهاديين والإنتحاريين في شتى أرجاء المعمورة . لماذا لا يتصدى الأزهر لمُجمَل نظرية الولاء والبراء ويشرح لجمهوره الواسع أنها (نظرية الولاء والبراء) نظرية أنتجت في زمن معين وفي ظل ظرف تاريخي محدد هو سقوط أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي تحت سنابك خيل المغول الذين أسقطوا عاصمة الدولة الإسلامية وداسوا أشياءاً عديدة في طريقهم . لماذا لا يُقال على أوسع نطاق أن القول بنظرية الولاء والبراء كانت حاجة سياسية مُلحة في زمنٍ وظرفٍ تاريخي لمنع أبناء الشعوب الإسلامية (وقتها) من التعامل مع العدو الغازي .

الدانة (20):
- صرت - مع تجارب السنين - أرى أن بعضنا يحمّل بعض الأشياء والظواهر والتوجهات الثقافية أكثر مما تحتمل . فكثير منها هو محض ترجمة لحالة التَرَهُل والإنهيار فى المستويات الثقافية والتعليمية والإجتماعية ... ولتنخفض الجباه إحتراما لمن قال منذ قرابة القرن ونصف القرن (قُل لي كيف تكسب وتعيش ؛ أقول لك كيف ت ُ ف َ ك ِ ر وماذا تتذوق وبما تؤمن !!) ... وليقرأ قراء هذا المقال إما الفاتحة ( لو كانوا مُسلِمين) أو الصلاة الربانية (إن كانوا مسيحيين) أو مزمور "إرحمني يا الله" (إن كانوا يهودا ) على روح العظيم كارل ماركس (1818 - 1883) ... فإن كان هو سيرفض تلك النصوص الثلاثة ؛ فلنقرأ مقدمة كتابه المسألة اليهودية !!!!! .....

الدانة (21):
- منذ ُ مائة سنة بالتمام والكمال إ فتُتِحَت الجامعة المصرية ( تحول الإسم من الجامعة الأهلية للجامعة المصرية لجامعة فؤاد الأول لجامعة القاهرة ) ... فى سنواتها الأولي كان من بين طلاب الدراسات العليا با لجامعة طه حسين ؛ كما كان من أساتذتها البروفيسور الإيطالي الأشهر نيللينو - اليوم تغرق قطاعات عديدة من هذا الصرح العلمي العريق تحت ظلام ملاّك الحقيقة المطلقة فيما تُسحب صفة "الجامعة" عن أماكن كثيرة بها ... ففى البحث العلمي لا يوجد أ و لئك الذين يملكون الحقيقة المطلقة .

الدانة (22):
- منذُ أيام قليلة (6 مايو 2008) وبينما كنت أجلس على يسار رئيس وزراء كوردستان في مدينة إربيل (عاصمة كوردستان) سمعته يتحدث عن أن أول قرارٍ إتخذه يوم أصبح رئيساً لحكومة كوردستان (سنة 1991) و هو إغلاق معظم المدارس الدينية في الإقليم . فقد كان يرى أن المجتمعات الحديثة تحتاج لعددٍ قليل جداً من رجال الدين من أصحاب المستويات الرفيعة في التعليم ولا تحتاج إلى تلك المفارخ لذهنية التعصب والتزمت والرجعية . في نفس يوم إصداره إلغاء المدارس الدينية في إقليم كوردستان العراق إتصل به الرجل الثاني في دولةٍ تُنفق ببذخ على المدارس الدينية من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب وعرضَ عليه إغراءات مالية بمليارات الدولارات إن قامَ بإلغاء قرار إغلاق المدارس الدينية . ولكن السيد ( Nichirvan Barzany ) أصر على التمسك بقرارهِ . وهاهي كوردستان اليوم منطقة هادئة مسالمة تنعم بسلامٍ نادرٍ وسط أتون الغليان العراقي بل أَنها الجهة الوحيدة في العراق التي لا يحارب بعضُها بعضَها . توقعاتي لإقليم كوردستان أن يكرر النهضة العظمى لمكانٍ مثل إمارة دبي كما أتوقع له أن ينسلخ عن أتون الغليان والقتلِ والدم القريبة منه .

الدانة (23):
- كان مُحدثي على مشارف التسعينيات من العمر . وهو عراقي من جيل الملكية في العراق. تلقى تعليمه في أرقى مدارس العالم وحصل على الدكتوراة في الإقتصاد من جامعة أُكسفورد البريطانية العريقة . قال لي : سافرت إلى يافا في فلسطين في صيف سنة 1942 وكنتُ قد تخرجت حديثاً من جامعة أُكسفورد . بعد زيارتي إلى يافا أخذني أصدقاءُ فلسطنيون إلى الجزء اليهودي من المدينة أي تل أبيب . رغم أن إسرائيل يومها لم تكن قد قامت بعد كدولة , إلا أن صاحبي العراقي المثقف الكبير أدهشته الفوارق بين يافا وتل أبيب . في تل أبيب طلب منه سائق الحافلة العامة أن ينزل ويقف في طابور المنتظرين ثم يُعاود ركوب القافلة وفق النظام . في الحافلة قال له أحد اليهود من قاطني تل أبيب أن اليهود سوف ينتصرون دائماً على خصومهم العرب طالما أنهم يقفون في الطابور والعرب لا يعرفون الإنتظام في طوابير!... قد تُضحك هذه القصة البعض ... ولكنها لم تضحكني فقد سبق وأن قرأت نفس الكلمات في مذكرات "بن جوريون" الذي كتب أنه لن يأخذ العرب مأخذ الجد طالما أنهم لا يقفون في طوابير .

الدانة (24):
- سألني شابُ بعد محاضرةٍ عامة منذ أسابيع عن تقييمي للحقبة الناصرية فقلت له أنها حقبة لها إيجابياتها ولها سلبياتها . ويمكن أن أقول أن أكبر الإيجابيات كانت محاولة عبد الناصر النبيلة لتوسعة الطبقة الوسطى المصرية وأن أكبر السلبيات هي الطريقة غير الصائبة التي تمت بها محاولة توسعة الطبقة الوسطى فإنتهينا بطبقة تُسمى بالوسطى ولكنها تحت ذلك بكثير . سألني الطالب : وماذا عن الهزائم والإخفاقات العسكرية ؟ قلت بالنظر لكل ذلك من خلال ظروفِ الحرب الباردة وما بعد الحرب الثانية فإن مجتمعات كثيرة غير مصر كانت لها إخفاقات مماثلة . ولكن هذه المجتمعات لم تسقط مثلنا في كل الأخطاء الكبيرة التي شابت عملية توسعة الطبقة الوسطى (وهي مهمة نبيلة في الأساس) وأهم هذه الخطايا ما أُقترف عندنا عندما سمح بتوفر عوامل إنهيار المؤسسة التعليمية بالشكل الذي حدث وما أعقبه من هبوط مذهل في مستويات التعليم (في الفلسفة التعليمية وفي مستويات الأساتذة والمدرسين وفي طبيعة ومستويات البرامج التعليمية وأخيراً في مستويات التلاميذ والطلبة). لقد إقترفت روسيا أخطاءاً كبرى على مستوى السياسات الكلية ولكن لم يكن من بينها إنهيار المؤسسة التعليمية كما حدث لدينا . ففي ظل أسود مراحل الإتحاد السوفيتي والتي ضرب من خلالها سوس الإنهيار في الإقتصاد في بدن الإتحاد السو فيتي ظلت الجامعات الروسية بمستويات تعليمية رفيعة وعالية . وقد حدث نفس الشئ في الهند . فرغم خيارات نهرو الإشتراكية (والتي من حق البعض أن يُعجب بها ومن حق البعض أن ينتقدها) فقد ظلت المؤسسات التعليمية الهندية بوجه عام والجامعات الهندية بوجه خاص بمنأى عن التدهور وإنهيار المستويات . واليوم ، فأننا نسمع الكل يتحدث عن إنهيار التعليم في مصر , ومع ذلك فلا توجد إرادة إقتحام جريء وعريض وعميق للمشكلة وتقديم حلول جذرية بل ولا تزال الفلسفة التعليمية لدينا هي ذات الفلسفة التي أدت لتدهورِ أحوالِ التعليم .

الدانة (25):
- يدعو "البعض" لإقامة دولة الخلافة . وهى أخبار سيئة للخُلفاء القادمين !! ... إذ أن ثلاثة من الخُلفاء الراشدين (عُمر وعُثمان وعلي) قد قُتِلوا !! أما مؤسس الدولة العباسية ، فإسمه "السفاح" ! وأما هارون الرشيد ، فقد ترك ولدين للخلافة من بعده ، وقد قتل أحدهـما الآخـر (!) . وخلال القرون المتتالية ، فإن الخلفاء الذين كانوا على شاكلة السلطان العثماني "عبد المجيد" أكثر بكثير ممن كانوا على شاكلة عُمر بن الخطاب .

الدانة (26):
- الإمام أبو حنيفة النُعمان هو المُلَقَب بالإمام الأعظم . وهو أول الفُقهاء الأربعة الكبار خارج المذاهب الشيعية ومذاهب الخوارج الأربعة . وحسب الإمام أبي حنيفة فإنهُ يجوزَ للمُسلِم أن يرفُض تأسيس الأحكام على الأحاديث المعروفةِ بأخبارِ الآحاد . ولمّا كان غير أخبار الآحاد من الأحاديث (أي الأحاديث المتواترة والأحاديث المشهورة) تقل عن مائةِ حديثٍ مُقابل آلاف الأحاديث التي هى من قبيل "أخبار الآحاد" ، فإنني أتعجبُ من الهجوم (الذي تُشارك فيه الدولة) على جماعة القُرآنيين التي لا تقبل إعتبار الأحاديث النبوية من مصادر الفقه الإسلامي ، نظراً لإعتقاد القُرآنيين أن السواد الأعظم من الأحاديث قد وضِعَت بدوافع سياسية إبان حِقبةِ الدولة الأُموية والحِقبةِ الأولى من عُمرِ الدولة العباسية. ويُشكك القُرآنيون في صوابية الأحاديث التي جمعها رجالٌ مثل البُخاري ومُسلِم بعد ثلاثةِ قرون من آخر يومٍ من أيام البعثة المُحمدية . ولا أعرف ما هو الأساس العقلي لمُعاملة القُرآنيين وكأنهُم كُفار أو زنادقة ؟ لقد إعتمد أبو حنيفة (أول الفُقهاءِ الأربعةِ الكِبار) أقل بكثيرٍ من مائةِ حديث . أما رابع الفُقهاءِ الأربعةِ الكِبار (أحمد بن حنبل) فقد إعتمد آلاف عدة من الأحاديث التي جمعها في كتابهِ "المُسنَد" . ومع ذلك ، فإن الذي إعتمد آلاف الأحاديث لم يتهم الذي إعتمد عشرات الأحاديث بالكُفر والذندقة . وأنا لا أعرف لماذا لا ننظُر إليهم كمدرسة فقهية لها ما لها وعليها ما عليها . وكيف يستقيمُ المنطقُ الذي يترُك الحُكم على هؤلاء لفُقهاء من عينةِ أصحاب الفضيلة القائلين ببركة الفضلات ؟!

الدانة (27):
- تُرى ألم يكُن من الأنفع للحزبِ الوطني في مصر وحكومته عدم إضعاف أحزاب المعارضة الشرعية بل والسماح بتقويتها وتألُقها عوضاً عما فعلته الحكومةُ عندما همَّشَت وأضعفَت أحزابَ المُعارضة الشرعية وتركت نفسها وتركتنا أمامِ وحشٍ حقيقي ؟ أليس هذا مما يوصف بالإنجليزية بأنه كالشخصِ الذي أَطلقَ الرصاصَ على قدمهِ ؟ ... أوليس هذا تطبيقاً للقول المأثور بأن رجلاً أراد عقاب زوجته فقطع أنفه ! ...

الدانة (28):
- يقول نيقولو ميكيافيللي في مُطارحاته أنه قال للأمير (وهو ينصحه) : تنبه ! إن كل من يمدحك يرى نفسَه أشدَ ذكاءً منك بل ويستغبيك ! ويقصُد ميكيافيللي أنه ما من أحد يمدح شخصاً في موقعِ سُلطة إلا وهو يرى نفسه أشد ذكاءً من الممدوح ؛ وأنه المُخادع وأن الممدوح هو المخدوع .

الدانة (29):
- منذُ أربعين سنةٍ وبالتحديدِ ليلة 4 يونيو 1967 كان شِعارُ القيادةِ المصريةِ هو "إستعادة فلسطين" . وبعد أقل من إسبوعٍ واحدٍ ، كان الشعارُ قد أصبح "إزالة آثار العـدوان" . والفارقُ بين الشِعارين هائلٌ وكبيرٌ وله معاني جَد مختلفة . ومع ذلك ، فإن البعضَ لا يزال يتكلم بلغة تُعَبِر عن الشِعار الذي أسقطه مُعَلمُهم وقائدُهم الرمز .

الدانة (30):
- من أهم "قيم التقدم" الإيمان بالتعدُدية وإحترام الإختلاف وتنشيط وتفعيل العقل النقدي وإشاعة مناخ ثقافي عام يقبل النقد وإنتقال المجتمع من الشخصنة للموضوعية والإيمان (المُتَرجِم للواقع) بعالمية المعرفة والعلوم الطبيعية والإجتماعية والإيمان بفعاليات علوم الإدارة الحديثة والإهتمام بالإنسان (الموارد البشرية) كأهم أصول أي مجتمع من المجتمعات... والسؤال الأهم: إلى أي حد تغرس مؤسساتنا وبرامجنا التعليمية هذه القيم في عقول وقلوب ونفوس وضمائر أبناء وبنات مُجتمعنا ؟ ... ظني أنها لا تفعل ، أو أنها تفعل القليل غير المؤثر .

الدانة (31):
- متى تصبح بطاقة الهوية المصرية (مثل بطاقات الهوية في كل المجتمعات المتحضرة والراقية) بدون خانةِ الديانة ؟

الدانة (32):
- كان "السنهوري" (أُستاذ القانونيين و الحقوقيين في المجتمعات العربية... و واضع المدونة المدنية المصرية الحالية) يقول أنه وإن كانت المدونة (المصرية) تستقي الكثير من موادها من القانون المدني الفرنسي (مدونة نابليون) ، فإنه كان يجزم بخلوها من أي تعارض مع الشريعة الإسلامية . فهل السنهوري (أكبر علاّمة قانوني في منطقتنا خلال القرنين الأخيرين) على خطأ والشيخ حنظلة بن جهم الجيهـمي علـى صواب (؟!) .

الدانة (33):
- لن نبرأ من عللِ مُناخنا الثقافي العام إلاَّ بالمزيد من الترجمات عن سائر اللغات . وكما أن المُسلمين لم يُصبح لهم شأن فكري وثقافي وعلمي إلا على أساس الترجمات العديدة التي تمت في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين (وفي مُقدمتها ترجمات أعمال عديدة لأرسطو وتعليقات عمالقة مثل إبن رُشد عليها) فإننا لن نخرُج من مناخ الخُرافة والمحلية الحالي إلا بتعظيم حركة الترجمة . ومن حُسن الحظ (لمُجتمعنا) أن توضع تلك "المُهمة التاريخية" في يد رجُل مثل الدكتور / جابر عصفور بمحصوله المعرفي العارم ورؤيته الإنسانية الصافية وتوجُهاته الحضارية الراقية . أمامي عشرات الترجمات الفذة التي أشرف عليها هذا الرجل التنويري العظيم ، ومن بينها ثلاثة أعمال صعبة لتشارلز داروين (ترجمها بإبداع الدكتور / مجدي المليجي أُستاذ الطب) ... وأمامي أيضاً عمل فذ من كلاسيكيات الدراسات اليهودية (نقد العهد القديم لشازار زالمان) وعشرات العناوين ... وليس عندي أمل في أن نكسر شرنقة المحلية القرون-أوسطية المُتشحة برقائق سميكة من الخُرافة والتخلف إلاَّ بحركة ترجمة واسعة تجعل أبناء وبنات مجتمعنا ينصرفون عن كُتب هى الهوان المُجسِداً لنا ولعقلنا: وهى جل الكُتب المعروضة للبيع وداخلها ذهنية البداوة والظلام والإنغلاق ومُعاداة الإنسانية .

الدانة (34):
- في سنة 2003 صدر لي في ولاية أوريجون الأمريكية كتاب بالإنجليزية بعنوان (الثقافات والحضارات الإنسانية) صدّرته بكلمات الملك داوود الواردة في المزمور الثاني عشر وهى: (عند إرتفاع "الأرذال" بين الناس ، "الأشرار" يتمشون في كل ناحيةٍ) . وكأن الملك داوود كان يعيش بيننا اليوم .


الدانة (35):
- يقول "جان بول سارتر" (وما أروعه من قائلٍ) أنه لا يوجد شيء إسمه المُستَقبَل ، فالمُستَقبَل هو ما نصنعه في مطبخ اليوم . ويقول ذات العبقري – سارتر – أنه لا يليق بالمُثقف إلاَّ أن يكون "ناقداً" .

الدانة (36):
- أكتُب هذه "الدانة" والإحصائيات أمام عينيَّ تفصح عن رسالة يرفض الدراويش المرضى بنستالجيا تقديس ماضٍ من صُنع أوهامهم التسليم بوجودها وفرط وضوحها . اليوم وتعداد المصريين يقترب من الثمانين مليوناً ، فإن عدد جرائم إغتصاب النساء تُقَدَر بنحو عشرين ألف حالة سنوياً . عندما كان عددنا نصف عددنا اليوم (أي أربعين مليوناً) لم يكُن عدد جرائم إغتصاب النساء هو عشرة آلاف جريمة سنوياً كما قد يظُن البعض وإنما أقل من ثلاثة آلاف جريمة إغتصاب سنوياً . أي ثُلث ( ? ) الوضع الحالي ... رغم أن النساء يومها لم يَكُن "مُلتَزِمات" (!!!) كما هو أمر الكثيرات اليوم . إذن ، "الإلتزام" لا يؤدي إلى "الفضائل المُجتمعية" التي يتوهمها البعض ... بل قد تكون مفردات الواقع في إتجاه مُعاكس لهذا "التوهم" . تفسيري الخاص لهذه الظاهرة ، أن إغتصاب النساء لا علاقة له بشكل لباسهن أو درجة "إلتزامهن" . وإنما الأمر نتيجة لذيوع عقلية/ذهنية أشد تخلُفاً في المُجتمع ولشيوع حالة غضب عارمة (تُعَبِر عنها أشكال شتى من أشكال الخلل) من جراء سوء إدارة الُمجتمع من قِبَل أجيال مُتتالية من العجز الإداري وإنعدام المواهب القيادية وإستشرار الفشل والفساد. إن جرائم الإغتصاب ليست "فعل إثارة من جانب الضحية" (كما يُرَدِد المُتخَلفون) وإنما هى "فعل عدوان شرس وهمجي وغاباوي وحيواني من جانب الذئب" . ولكننا أبناء وبنات "ثقافة الذئب" درجنا على تبرئة الذئاب وإلقاء كل المسئولية على عاتق الضحية !

الدانة (37):
- يقول فولتير : "إنني على إستعدادٍ لمخالفةِ خصومي في الرأي لآخرِ نفسٍ في حياتي ، ولكنني – بنفسِ القدرِ – على إستعدادٍ لفقدِ حياتي من أجل حريتهم في التعبيرِ عن آرائهم" . أما شيخُنا الأكبر فقد طالب بجلدِ بعض حملةِ الأقلام !! . أنت إذن (يا مولاهم) تدعو لجلدِ بعض حملةِ الأقلام لأنهم كتبوا ما لم يرق لك ... بينما كان ?ولتير على إستعدادٍ لملاقاةِ الموت من أجلِ حمايةِ حريةِ وحقِ خصومهِ في التعبيرِ عن آرائهم . وكأنك بذلك قد قصدتَ أن تجسدَ (أمام العالم) الفارق الأكبر بين حضارة الإنسانية التي أثمرها جهادُ أجيالٍ ضد الكهنوت ، وبين حضارتك (يا مولاهم) ، أي حضارة جلد حملة الأقلام ... وما أبأسها من حضارةٍ .

الدانة (38):
- يقول أبو الطيب المتنبي في واحدةٍ من أشهر قصائده :
نامت نواطيرُ مصرَ عن ثعالبِها
فقد بشمن وما تفني العناقيدُ .
ومعنى البيت : أن المسئولين في مصرَ قد ناموا وغفلت عيونهم من فرط التخمة حتى أنهم تركوا الساحة للصوص ليمرحوا فيها ، ومع ذلك فإن خيراتِ مصرَ لم تنفد (نوم المسئولين كان من فرطِ ما حطه اللصوصُ في أجوافِهم !) .

الدانة (39):
- عندما إكتسح سعدُ زغلول وحزبُه (الوفد) الإنتخابات التي أجريت تحت نظر ملك يمقت سعداً (الملك فؤاد) وتحت إشرافِ حكومةٍ تُعادي سعداً (حكومة يحيى باشا إبراهيم) وهى الإنتخابات التي سقط فيها يحيى باشا إبراهيم (وكان رئيس الحكومة ووزير الداخلية في الوزارة التي أجرت الإنتخابات !!) أخذت العزةُ بالإثمِ نفسَ الملكِ فؤاد ، فعوضاً عن أن يكتب لسعد زغلول مكلفاً إياه بتشكيل الوزارة لأنه فاز في الإنتخاباتِ العامة ، فإذا بنفس فؤاد المستبدة تجعله يكرر ما يقوله كل طاغية . ماذا قال الملكُ فؤاد في خطابِ التكليفِ ؟ قال إن إرادته إتجهت لتكليفِ سعد زغلول بتشكيل الحكومة !! (إرادته إذن وليست نتائج الإتخابات) . ولما كان سعدٌ رجلاً عظيم النفس ، فقد أبى أن يخاطبه الملك بتلك الكلمات . فماذا فعل ؟ ... يجلس سعد زغلول العظيم ويكتب للملك فؤاد رسالة تنبيء الملك بموافقة سعد على تشكيل الحكومة ويبدأ بأن يحمد – سعد زغلول – الله ، أن جعلَ إرادةَ الملك تواكب وتوافق إرادةَ الأمة التي إختارت سعداً !! ... هكذا كان الرجالُ !! .

الدانة (40):
- أكاد أسمع صدى صوت وصدح كلمات إسماعيل باشا صدقي (1875 / 1950) وهى تأتي من القبورِ تحث الفلسطينيين بكلماتٍ قالها تحت قبة البرلمان المصري منذ أقل (بشهورٍ قليلة) من ستين سنة : (أَملي ، ألاَّ تركضوا وراء "المستحيل" ، وتهجروا : "الممكن").

الدانة (41):
- يذهلنى أن كثيرين فى المجتمعات العربية لا يرون واحدة من أشد الظواهر قوة ً ووضوحا ً وهى ظاهرة إتفاق المؤسسات السياسية والدينية على ضرورة عدم تنمية العقل النقدى عند جموع المواطنين وحتمية إستمرار ذهنية الأجوبة لا ذهنية الأسئلة ... فمع إنتشار ِ العقل ِ النقدى وتحول الذهنيات ِ من عوالم ِ الأجوبة ِ الضيقة ِ إلى عوالم ِ الأسئلة ِ الرحبة ِ ؛ يأتى طوفان ُ المشاركة ِ والمسائلة والمحاسبة الذى هو آخر ما تقبل بشيوعه ِ مؤسسات ُ الإستبداد ِ والفساد ومعهما المؤسسات الدينية .

الدانة (42):
- الصراع ُ العربي الإسرائيلي لا يصل إلى تسوية ٍ أو حل ٍ إلا من خلال طريقين : الحرب أو التفاوض . ومن أغربِ ما ي ُ ثير عجب م ُ ثقفي المجتمعات الأكثر تقدماً أن يروا المثقفين العرب يتخذون مواقفً ويكتبون آراءً تناهض إسلوب الحل السياسي أي التفاوضي . فمعظم (إن لم يكن كل) مُثقفي العالم يعتقدون أن من طبائع ِ الأمور أن يكون المثقفون في جانبِ الحل التفاوضي وليس الحل القتالي . ترى ما الذي يجعل المثقف العربي (في أغلبِ الحالات) يُمجد إسلوب القتال أو المقاومة فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي ويرفض بل وأحياناً يزدري إسلوب ت ن اول الصراع بالمفاوضات؟ رغم أن لدي إجابة ً (خاصة ً ) إلا أنني أؤثر الإكتفاء بطرح السؤال والدعوةِ لحوار ٍ بهذا الخصوص.

الدانة (43):
- أمضيت الأسبوع الأخير أُطالع عشرات التقارير والدراسات والمقالات عن الجرائم التي أُرتكبت (ولا تزال تُرتكب) في حق مواطني إقليم دارفور من أصولٍ إفريقية . هناك العديد من الزوايا التي يمكن النظر منها لمأساةِ دارفور إلا أنني أختارُ هنا النظر لفظائعِ إقليم دارفور من خلال ِ سؤالا ٍ واحد ٍ : لماذا لم يكتب كاتب عربي كبير واحد ما يدل على إستنكارهِ للجرائمِ التي أُ ق ترفت من قِبل سكان دارفور من أصول عربية وكذا من قِبل الحكومة المركزية في السودان ضد أهل دارفور المنحدرين من أصول أفريقي ة؟ لماذا لا يغضب هؤلاء لأطفال ونساء ورجال دارفور من أصولٍ غير عربية كغضبتهم للفلسطنيين في غزة؟ أي ة ذهنية هذه ؟ أية إنسانية هذه ؟ وأخيراً : أي تعصب مقي ت هذا ؟

الدانة (44):
- تُشغلني كثيراً أحوال ُ تركيا السياسية . فتركيا كانت هي النموذج الوحيد لمجتمعٍ مسلمٍ يفصل فيه الدين عن الدولة وعن إدارة المجتمع والحياةِ كلياً . تركيا ال آ ن ليست على هذا الدرب وإنما تميل إلى خلطٍ ما بين الدين و الدولة . تري , ماذا سيكون مستقبل تركيا من هذه الزاوية ؟ هل س تستمر في زيادة جرعةِ دخول الدين ومعالمه ِ في الحياة السياسية بما يقضي قضاءاً مبرماً على إحتمالاتِ قبولِ أوروبا لتركيا كعضوٍ في الإتحاد الأوروبي ؟ أم تنحسر الموجة الحالية في تركيا وتنضم للإتحاد الأوروبي ؟ أغلب ظني أن التفاءل لدخول تركيا للإتحاد الأوروبي وما يعنيه ذلك ثقافياً وإجتماعياً وإقتصادياً هو من باب الأمل غير المُستند على أية أرضية من الواقع والحقائق .

الدانة (45):
- كما أن ويليام شكسبير – كما قال وينستون تشرشل العظيم – أهم من الإمبراطورية البريطانية ؛ فإن محمود درويش (كان ولا يزال أهم من أي منظمة فلسطينية 1942 – 2008) عندما توفى العظيم محمود درويش تقاطرت مواقف التعظيم له من كبريات الجامعات وأكبر أصحاب العقول والأقلام وطالت قامة الرئيس محمود عباس بما فعل وقال في حق محمود درويش ... ولكن الموقف اجلل والجليل شهد نغمة نشاز واحدة عندما إنبرى أقزام (أشك أن بوسع أي منهم مطالعة وفهم صفحة واحدة بأي كتاب عالمي جاد) وكلهم من أزلام حماس ينهشون إسم ورسم وقيمة العظيم محمود درويش ... وهو ما أكد ما نكرره أن من (توهم) أنه وحده الذي يمثل الحق (وكل من خلط الدين بالسياسة هو من هذه الفئة) لا يمكن أن يفهم أو يقبل التعددية التي هي من أحجار الزاوية لأي ثقافة إنسانية متحضرة ... ومن لا يقبل التعددية ؛ لا يقبل تداول السلطة ؛ ومن لا يقبل تداول السلطة لا يمكن تصنيفه بين الديمقراطيين ؛ حتى لو وصل للحكم (مثل أدولف هتلر) من خلال إنتخابات ديمقراطية ... لقد كانت كلمات أزلام حماس عن محمود درويش طبقة جديدة سميكة من طبقات السخام الحماسي (راجع معنى سخام في القاموس المحيط ولسان العرب) .

الدانة (46):
- لا شك عندي أن الأوليجاركية المالية تقود مهازلستان المعاصرة لأتون من الفوضي ... فكما قال إبن خلدون منذ قرون ؛ فإن الحاكم إذا تاجر فسد الحكم وبارت التجارة . منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي و مهازلستان تشهد واحدا من أخطر فصول تاريخها إذ تحول حكم مهازلستان خلالها من نظام حاكم فرد محاط ببطانة من عتاة البيروقراطية السياسية لنظام حاكم فرد محاط بطبقة تجار نهمة وذات محصول ثقافي ومعرفي وتاريخي بالغ الضحالة وعديمة الحس الإجتماعي ومن عتاة الفاهمين لآليات الإحتكار والإستحواذ وأخيرا فإنهم من أرباب الفساد والإفساد بأشكال ربما تكون الأكبر والأشد فساداً فى تاريخ مهازلستان الطويل (نيف وخمسين قرناً) . ولو كنت من قادة الجماعة المحظورة لصليت – يومياً - صلاة شكر لله لأن هذه الأوليجاركية قد وجدت فى هذا العهد ولأنها فعلت وتفعل ما يعبد طريق الجماعة لحلمها التاريخي . وعندما تقع الفاس فى الراس ؛ فسيكون ذلك موعد لقاء أبناء وبنات مهازلستان مع عقود من الفوضي والإنهيار ... أما أبناء وبنات الأوليجاركية المالية المهازلستانية فسيكونون أما فى سويسرا أو موناكو أو سردينيا يحيون حياة ترف بلا نظير بتمويل من أبناء وبنات مهازلستان (الغلابة) الذين بقوا لتتعلم فيهم الجماعة - غير المحظورة وقتئذ - الحكم والسياسة ...

الدانة (47):
- أمضيتُ أكثر من عقدين في مؤسسةٍ كانت ولا تزال أحد أكبر ثلاث مؤسسات إقتصادية في العالم وكان ما تعلمته من الثقافة المؤسسية لهذا الصرح الإقتصادي العظيم أنه لا يوجد حادث إلا وكان من الممكن تجنب وقوعه . وينطبقُ هذا على حوادث الحريق بوجهٍ خاص . فمعظم الحرائق الكبرى تكون بدايتها مرتبطة إما بالكهرباء أو بنارٍ أهملت (ومن ذلك أعقاب السجائر) . تذكرت ذلك وأنا أشاهد إحتراق المبنى التاريخي لمجلس الشورى والذي أفتتح سنة 1866 كمجلس شورى القوانين والذي بنته دولة الخديوي إسماعيل الفذة كما بنت دار الأوبرا المصرية القديمة التي أجهز عليها حريق مماثل للذي أجهز على مبنى مجلس شورى القوانين (مجلس الشورى) . إذا لم يكن ما حدث بفعل فاعل , فإنالإهمال (ذلك الصنم المصري العتيد) يكون هو الفاعل ... وهو أمر غير مُستغرب في بلدٍ لم تمر سنة من سنواته الثلاثين الأخيرة دون حادث مأساوي كحريق قطار الصعيد وحريق أحد المراكز الثقافية في صعيد مِصر وحادث العبارة المأساوي وكلها حوادث يدفعها من لا علاقة له بالعصر بصفة القضاءِ والقدر وكلها في الحقيقة حوادث كان من الممكن تجنبها إلا أن وجود آلية تجنب حوادث كهذه تتطلب إدارة قيادات إدارية من نوعٍ لا وجود له في مِصر لا في المؤسسات الحكومية ولا في القطاع العام ولا حتى في القطاع الخاص .

الدانة (48):
- الثقافة العربية اليوم مكبلة بثلاثة قيود : القيد الأول يمثله عدد من رجال الدين الغارقين فى الرجعية والماضوية والتخلف (وهم أيضا الذين يعطون الشرعية) لنظم حكم أسوأ من السوء ... ثم القيد الثاني والذى تمثله برامج التعليم ومناهجه الغارقة فى عقلية التلقين والغارسة لقيم التخلف والحاجرة على إبداعات العقل النقدي ... ثم القيد الثالث والمتمثل فى إشكالية الثقافة العربية المعاصرة مع التقدم وعجز هذه الثقافة عن التعرف على الطبيعة الإنسانية لقيم التقدم ... وبفعل تلك القيود الثلاثة تغلف واقع مجتمعاتنا رقائق بل طبقات سميكة من الآفات أكبرها موقف ثقافتنا المخزي من الوضعية المزرية للمرأة العربية ... فالرجل العربي الكسيح والفاقد - كلية - للثقة فى الذات لا يزال يقبل بمعاملة المرأة وكأنها شر مؤكد (بل ويدين المرأة إذا تحركت غرائزه هو بشكل حيواني فيصرخ "كفنوها" بالأقمشة والبراقع لأنها تغريني !! فالضحية هى المسئولة لا الجاني الذى يعترف ضمنا بحيوانيته وبهيميته وتوحشه ... ومع ذلك يلقي بتبعة دونيته على المرأة) ... إن المثقفين العرب مطالبون اليوم بإعتبار أعداد غير قليلة من رجال الدين فى مجتمعاتهم (وهم أولئك الذين يعارضون المساواة والحقوق الكلية للمرأة) مجرد مرضي من مصلحة المجتمع حجزهم فى المصحات لعلاجهم نفسيا لا إقامة التشريعات وسن القوانين بناءاً على آرائهم المريضة والمترعة فى التخلف والظلامية والرجعية والماضوية واللا–إنسانية ...

الدانة (49):
- كما طالعت كل كتابات الأب متي المسكين فقد طالعت السيرة التفصيلية له والتى أصدرها دير الأنبا مقار ... وكما أعجبت بمؤلفاته (وأن كانت لي تحفظات على آراء عدة له فى أكثر من مسألة من مسائل اللاهوت اللأرثوذوكسي) ؛ فقد أعجبت بسيرته ... أما ما تردد مؤخرا عن مصادرة السيرة التفصيلية للأب متي فإنه لم يذهلن لأنني لم أتوقف عن ملاحظة شيوع السلبيات الثقافية فى المجتمع المصري ككل : التعصب ... ضيق الصدر بالنقد ... ضآلة الإيمان بالتعددية والغيرية ... الهجرة المرضية للماضي ... تآكل هامـش الموضوعية ... ذيوع مفاهيم تستقي وجودها وتفاصيليها من ذهنية الخرافة والأسطورة ... لذلك فلم يدهشن أن يكون رد فعل بعض قادة الكنيسة تجاه الكتب التى لا تروق للبعض فى الكنيسة مشابها لردود أفعال الأزهر ... القضية قضية مجتمع يسقط الكثير من أبناءه وبناته بسرعة كبيرة فى يد الجهل والتعصب والثيوقراطية والماضوية ... للأسف الشديد .

الدانة (50):
- دعونا نسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية : فالهمجية الفكرية وسيكولوجية الأقنان هما ما يجعلا إنسان لا تغضبه الجرائم التى إقترفت فى دارفور ويصغرويقلل من فداحة ما حدث ويحدث هناك ... والهمجية الفكرية وسيكولوجية الأقنان هما ما يجعلا إنسان يعجب بنجاح حزب الله فى الإفراج عن سميرالقنطار - وهو ما كلف لبنان ألف قتيل لبناني وتدمير قسم كبير من بنيتها الأساسية - ولا يحفل بنجاح الرئيس الفلسطيني محمود عباس فى الإفراج (بالمفاوضات فقط) عن قرابة مئتي فلسطيني كانوا سجناء فى سجون إسرائيل ... والهمجية الفكرية وسيكولوجية الأقنان هما ما يجعلا مصري لا يسعد بإعلان وزير الخارجية المصرية أن من سيقدم على دخول مصر (من ناحية غزة) بغير السبل القانونية سيجد ما لا يسره والهمجية الفكرية وسيكولوجية الأقنان هما ما يجعلا أي إنسان لا يزدري ما قامت ولا تزال تقوم به منظمة حماس فى قطاع غزة من الإنقلاب الهمجي لإلقاء خصومها من الطوابق العليا للمباني لإطلاق الصواريخ العبثية التى حملت وتحمل الفلسطينين الأبرياء ما لا طاقة لبشر به لواقعة إقتحام الحدود المصرية الغوغائية لرفضها ما قبلته الحكومات الفلسطينية السابقة ... والهمجية الفكرية وسيكولوجية الأقنان هما ما يجعل مسئول سوري يصرح - فى تقدمة برنامج وثائقي عن الجاسوس الإسرائيلي الشهير إيلي كوهين (أعدم سنة 1966) أن سوريا ما كانت لتقبل أن تعطي إسرائيل رجلها إيلي كوهين حتى لو كانت مرتفعات الجولان هى المقابل (!!) وهو قول - فوق كونه تجسيدا لهمجية الفكر وسيكولوجية الأقنان - يتسم بالهوس ويجسد ثقافة الكلام الكبير التى هى أحد أهم معالم الثقافة العربية المعاصرة ... فمن جهة ؛ فهذا محض (كلام فارغ) إذ أن الجولان لم تكن قد إحتلت أثناء محاكمة إيلي كوهين وإبان إعدامه (!!) فقد أعدم إيلي كوهين فى دمشق قبل سنتين من ضياع الجولان ... ومن جهة أخري ؛ فكيف يكون إيلي كوهين أهم من الجولان؛ إلا إذا كنا نستمع لمتحدث مودع بعنبر المرضي الخطرين بمستشفي الأمراض العقلية ! فسوريا التى هى على إستعداد للإعتراف بإسرائيل والتعامل معها والتواجد المشترك معها فى منطقة الشرق الأوسط لا يمكن أن تسلم لإسرائيل رجلها إيلي كوهين حتى لو كان المقابل إعادة مرتفعات الجولان المحتلة لسوريا !!! ومن أبرز نماذج السلوك المجسد للهمجية الفكرية وسيكولوجية الأقنان موقف بعض العرب المؤيد لغزو العراق للكويت فى صيف 1990 بل ونعته بأنه عمل وحدوي (!!!) وهل هناك وصف غير الهمجية الفكرية وسيكولوجية الأقنان (أي عبيد الأرض) لهذا الإصطفاف الإجرامي مع المعتدي ؟ ... ويمكنني ضرب عشرات بل مئات الأمثلة - من التاريخ العربي القديم والوسيط والحديث - على مواقف هى محض تجسيد لهمجية التفكير أو التفكير الهمجي ونفسية العبيد .



#طارق_حجي (هاشتاغ)       Tarek_Heggy#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لا تقدم بدون -حقوق كاملة للمرأة- ...
- الآثار : بين العلماء والتجار !
- لماذا نحن عاجزين عن ركوب قطار الحداثة ؟
- التحدي الاكبر للمجتمعات العربية : التعليم
- مفتي السعودية : المدّعون أن الكسوف والخسوف ظواهر كونية مخالف ...
- دانات لندنية ... (2)
- أحلام يقظة (1)
- دانات لندنية ...
- ذبح الأقباط ليلة عيد الميلاد
- الحلف غير المقدس
- دانات : أرض - أرض
- العرب والمعاصرة - حوار جريدة المساء المغربية مع المفكر المصر ...
- حوار طارق حجي مع نخبة من المثقفين العرب
- مصاصوا الدماء : إبتعدوا ...
- إشتراك رجال الأعمال فى الحكم - بمناسبة إقالة وزير مصري من رج ...
- طارق حجي : من حديث للإذاعة المصرية (12 أكتوبر 2009)
- إنبعاث المارد.
- الإدارة و ثقافة المجتمع.
- شذرات
- آثار انهيار الطبقة الوسطى - باربع لغات


المزيد.....




- -الحرب وصلت لطريق مسدود-.. قادة الأجهزة الأمنية في إسرائيل ي ...
- القبض على العشرات في معهد شيكاغو مع تصاعد احتجاجات الجامعات ...
- مشاركة عزاء للرفيق نبيل صلاح
- البروفة الرئيسية لموكب النصر في موسكو (فيديو)
- الأرصاد السعودية تحذر من الأمطار الرعدية والأتربة المثارة في ...
- رئيس كوبا يخطط لزيارة روسيا والمشاركة في عيد النصر
- البرهان يشارك في مراسم دفن نجله في تركيا (فيديو)
- طائرة تهبط اضطراريا على طريق سريع
- حرس الحدود الأوكراني: المواطنون يفرون من البلاد من طريق يمر ...
- عريس جزائري يثير الجدل على مواقع التواصل بعد إهداء زوجته -نج ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - طارق حجي - دانات منتخبات (مقالات قصيرة جدا) .